random
السلايدر الرئيسي

بلاغة التصوير الحسي في شعر الوئواء الدمشقي (قراءة أسلوبية بلاغية)

بلاغة التصوير الحسي في شعر الوئواء الدمشقي
(قراءة أسلوبية بلاغية في قصيدة: "ومهفهف كالغصن هزته الصبا")

الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على حبيبنا ونبينا محمدٍ عليه أفضل الصلاة والتسليم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وبعد:

يُعدّ الشعر العباسي في عصوره المتأخرة ميدانًا خصبًا لتجلّي الصنعة الفنية والتفنّن البلاغي، حيث ازدادت فيه عناية الشعراء بالوصف الدقيق والصور المركبة ذات التفاعل الحسي والخيالي. ومن أبرز شعراء هذا الاتجاه الوَئْوَاء الدمشقي، الذي امتاز شعره بتوازنٍ فنيٍّ بين رقة الغزل وجمال التصوير ودقة التعبير، متخذًا من اللغة وسيلة لتجسيد المعنى لا مجرد أداة لنقله.

وتُعدّ قصيدته «ومهفهف كالغصن هزته الصبا» نموذجًا فنيًا رفيعًا لوصف الجمال الإنساني من خلال صورٍ حسيةٍ نابضة تجمع بين الرؤية البصرية والانفعال الوجداني، وتُبرز مقدرته البلاغية في توظيف التشبيه والاستعارة والمقابلة ضمن نظام موسيقي دقيق.

أهمية البحث

تنبع أهمية هذا البحث من عدّة جوانب، منها:

  • إبراز خصائص التصوير البلاغي في شعر الوئواء الدمشقي بوصفه حلقة وصل بين جمالية الشعر الأموي ورهافة العباسيين.
  • تحليل قصيدةٍ واحدة تحليلًا أسلوبيًا يكشف التلاحم بين الصوت والمعنى والصورة في بناء التجربة الجمالية.
  • بيان كيف عبّر الشعر العربي في العصر العباسي عن الجمال الإنساني بلغةٍ راقيةٍ تحافظ على السمو الأخلاقي والفني.
  • المساهمة في إثراء مقررات البلاغة والأسلوبية بتطبيق عملي على نصوص رفيعة المستوى من التراث العربي.

أسباب اختيار الموضوع

  • رغبة في تحليل نص فني يجمع بين الغزل والوصف الحسي الدقيق من منظور بلاغي معاصر.
  • جمالية النص المختار بما يحويه من صورٍ حية ومجازات دقيقة تجعل دراسته تطبيقًا مثاليًا للمنهج الأسلوبي البلاغي.
  • قلة الدراسات التطبيقية التي تناولت شعر الوئواء الدمشقي مقارنة بنظرائه من شعراء المشرق.

خطة البحث

يتكوّن هذا البحث من مقدّمة وثلاثة فصول وخاتمة:

  • الفصل الأول: ترجمة الشاعر وملامح عصره.
  • الفصل الثاني: القصيدة المختارة: نصّها، موضوعها، وغرضها.
  • الفصل الثالث: التحليل الأسلوبي والبلاغي.

ثم الخاتمة والنتائج والتوصيات، فالمراجع والفهارس.

منهج البحث

اعتمد هذا البحث المنهج الأسلوبي التحليلي بوصفه الأقدر على الكشف عن التكوين الجمالي للنص الشعري، من خلال الربط بين مستوياته اللغوية والبلاغية والدلالية؛ وقد تمّ تحليل القصيدة وفق هذا المنهج من خلال أربعة محاور مترابطة:

  • التحليل الصوتي والإيقاعي للكشف عن أثر الموسيقى اللفظية في التعبير العاطفي.
  • التحليل الصرفي والتركيبي لبيان انسجام الجمل وبنية الصورة.
  • التحليل البلاغي لاستجلاء جماليات التشبيه والاستعارة والكناية.
  • التحليل الدلالي والجمالي لاستخلاص القيم الشعورية والفكرية الكامنة في النص.

وبذلك يسعى البحث إلى إبراز خصوصية الأسلوب الفني عند الوَأْوَاءِ الدمشقي بوصفه نموذجًا للرهافة الجمالية في الشعر العباسي.

الفصل الأوّل: الشاعر وملامح عصره

أولًا: ترجمته

يُعدّ الوَأْوَاء الدمشقي من أبرز شعراء الشام في القرن الرابع الهجري، واسمه الكامل أبو الفرج محمد بن أحمد الغسّاني الدمشقي، ولقّب بـ"الوَأْوَاءِ" تيمُّنًا بصوت الهزيمة أو الأنين الخفيف، وهو لقب شاع في المصادر الأدبية القديمة. وقد أفرد له الثعالبي ترجمة وافية في كتابه يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر ضمن باب شعراء الشام، وابتدأها بقوله : «أبو الفرج محمد بن أحمد الغسّاني الدمشقي الملقّب بالوَأْوَاء» ().

كما أورد خير الدين الزركلي ترجمة موجزة له في الأعلام، مشيرًا إلى أصله الدمشقي ومكانته الشعرية، ومقدّرًا وفاته بنحو سنة 385هـ/995م ().

وتميّز الوَأْوَاء بلغةٍ عذبة وصورٍ حسّية دقيقة جعلته في نظر النقّاد أحد أرقّ شعراء عصره بيانًا. فقد وصفه الثعالبي بأنه صاحب «تشبيهات بديعة وعبارة ناعمة»، ونقل نماذج من شعره تؤكد طلاوته ورشاقة معانيه ().

وأكّد الزركلي هذا التقدير بقوله: «شاعر دمشقيّ، حُلْو الألفاظ، في معانيه رِقّة» (). كما أشار بعض المؤرخين، ومنهم الذهبي في تراجم أهل الشام، إلى أنّ الوَأْوَاء كان «من حسنات الشام في زمانه»، وهي عبارة تعكس مكانته في الذوق الأدبي المحلي ، وقد ارتبط الشاعر بالبلاط الحمداني، ويُستدلّ على ذلك من الأبيات التي قالها في سيف الدولة الحمداني، ما يربطه زمنيًا بمنتصف القرن الرابع الهجري، وهو زمن ازدهار حلب كمركز أدبي رائد. وتُشير روايات يتيمة الدهر إلى مشاركته في هذا المناخ الثقافي، وإلى حضوره في المجالس الأدبية التي جمعت فحول الشعراء أمثال المتنبي وأبي فراس الحمداني ().

ثانيًا: ملامح حياته وشعره

بيئته ونشأته

نشأ الوَأْوَاء في دمشق في بيئة حضرية مثقفة، عرفت بتنوّعها الاجتماعي وتفتّحها الثقافي، وهو ما انعكس في شعره الذي يجمع بين الرقة الشامية والجزالة العباسية. وتنقل المصادر الأدبية أنه كان قريبًا من حياة السوق الدمشقي، مطّلعًا على أجواء الناس ومجالس الأدب والغناء، وقد بلغ شعره درجةً من الذيوع جعلت بعض رواة نيسابور يحملون ديوانه معهم إلى المشرق، كما ذكر الثعالبي نفسه: «وحُمل بعض شعره إلى نيسابور فاشتهر هناك» (). وهذا يدلّ على أن شهرته لم تقتصر على الشام، بل تجاوزتها إلى المشرق الإسلامي.

خصائص فنه

تميّز شعر الوَأْوَاءِ بالجمع بين العذوبة والبيان؛ فهو شاعر إحساسٍ وصورة، لا شاعر فكرٍ وفلسفة. ويظهر ذلك بجلاء في غزله الذي يغلب عليه الطابع الحسيّ الرقيق، وفي أوصافه الدقيقة لألوان الجمال والحركة ، وتكشف مختارات يتيمة الدهر عن ميله إلى استخدام مفرداتٍ تتعلّق باللون والضوء والماء، مثل: اللؤلؤ، النرجس، البرد، التفاح، الورد، الخمر، الجوزاء، وهي مفرداتٌ تشي بحسٍّ بصريٍّ عالٍ، ونزعةٍ إلى التصوير التشكيلي الدقيق. يقول الثعالبي في وصفه له: «له في التشبيهات ما يُخجِل المتكلّفين، وفي ألفاظه رِقّةُ أهل الشام» (). أما الزركلي فقد لخّص هذه السمات بقوله: «حُلْو الألفاظ، في معانيه رِقّة» ().

ديوانه وتداوله

كان للوَأْوَاءِ ديوانٌ معروف في زمانه، جمعه بعض تلامذته، وتناقله الرواة في بلاد الشام والعراق وخراسان. ويشير الثعالبي إلى أنّه اطّلع على هذا الديوان بنفسه، وضمن منه مختاراتٍ في يتيمة الدهر، ما يدلّ على أن شعره كان رائجًا في المكتبات الخاصة ومجالس العلماء والأدباء ().

ثالثًا: ملامح عصره الأدبي والاجتماعي

الإطار العام

ينتمي الوَأْوَاء الدمشقي إلى العصر العباسي الثاني (القرن الرابع الهجري)، وهو عصرٌ شهد تحوّلات سياسية كبرى تمثّلت في انتقال السلطة الفعلية من الخلفاء إلى القادة العسكريين، وبروز الدويلات الإقليمية، مثل الدولة الحمدانية في حلب والبويهيين في بغداد. وقد أسهم هذا التنوّع السياسي في ازدهار المراكز الأدبية، وأوجد منافسةً بين الأمراء في استقطاب الشعراء والعلماء. يصف شوقي ضيف هذه المرحلة بقوله: «كانت عصور الترف الفكري والغنائي، فازدهرت الثقافة، وتأنّق الناس في القول والفن، وبلغت العربية في البيان غايتها» ().

الذائقة الفنية

تميّز الشعر في هذا العصر بالميل إلى الزخرفة اللفظية والتصوير الحسّي، دون أن يفقد بساطته أو صدق انفعاله. وغلب على الغزل طابع الوصف الدقيق للحواس، خاصة في البيئات الحضرية مثل بغداد ودمشق وحلب. وفي هذا المناخ ازدهر شعر الوَأْوَاءِ الدمشقي، الذي جمع بين رهافة الحسّ الشاميّ وأناقة اللفظ العباسي، فكان شعره شاهدًا على الامتزاج بين الحضارة والوجدان. ويؤكد شوقي ضيف أن هذا العصر شهد «تفتّح الحسّ الفني واتساع الخيال الشعري حتى غدا الشعر صورة للحياة الاجتماعية بألوانها ومظاهرها» ().

موقع الشام في الخريطة الأدبية

أثبت الثعالبي في يتيمة الدهر مكانة الشام كأحد أهمّ مراكز الإبداع الأدبي في القرن الرابع الهجري، واعتبر بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب مناراتٍ للشعر العربي. وقد صنّف الوَأْوَاء ضمن نخبة شعراء الشام، وذكر أنه «كان من أهل الذوق المرهف والعبارة اللطيفة، يجمع بين بيان البغداديين ورقّة الشاميين» ().

وهذا الموقع المتميّز جعل شعره جسرًا بين المدرسة البغدادية في الصنعة والبيان، والمدرسة الشامية في البساطة والعاطفة.

لذلك؛ يتّضح من خلال ما تقدّم أنّ الوَأْوَاء الدمشقي كان شاعرًا مثقّفًا متقنًا لفنونه، استطاع أن يمزج بين فصاحة العباسيين وذوق الشاميين، فخلّف شعرًا رقيقًا يجمع بين الغزل والوصف والخمريات، وأنه عاصر نهضة أدبية كبرى في القرن الرابع الهجري، وتفاعل مع أجواء حضارية غنية بالترف الفنيّ والبيانيّ، فجاء شعره مرآةً صادقةً لذوق عصره، وشاهدًا على نضوج الحسّ الجمالي في الشعر العربي؛ ولذلك عدّه الثعالبي من «أعيان شعراء الشام» الذين حفظوا للغة العربية رقتها وبهاءها، وتركوا أثرًا خالدًا في تراث الأدب العباسي.

الفصل الثاني: القصيدة نصّها، موضوعها وغرضها

أولًا: نصّ القصيدة ومصادرها الموثوقة

تُعدّ هذه القصيدة من أروع ما نُقل عن الوَأْوَاءِ الدمشقي (أبو الفرج محمد بن أحمد الغسّاني)، وقد حفظ لنا الثعالبي جزءًا كبيرًا منها في كتابه يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، ضمن الباب الخاص بشعراء الشام. أورد الثعالبي مقاطعها التي تبدأ بمشهد الخمر والكأس، وهي الأبيات التي يقول فيها الشاعر:

فامْزُجْ بمائِكَ خَمْرَ كَأْسِكَ واسقِني،
فلَقَدْ مَزَجتُ مَدامِعي بدمائِي،

واشرب على زهر الرياض مُدامةً،
تنفي الهموم بعاجل السراء،

لَطُفَتْ فصارت من لطيف محلّها،
تجري مجاري الروح في الأعضاء،

وكأنّها وكأنّ حامل كأسها،
إذ قام يجلوها على الندماء،

شمسُ الضحى رقصت فنقّط وجهها،
بدرُ الدجى بكواكب الجوزاء.

وقد أشار الثعالبي في مطلع ترجمته للشاعر إلى أنه اطّلع على ديوانه الأصلي، مما يمنح الرواية توثيقًا قويًا. يقول في موضع الترجمة: «وجدت له في ديوانه أشعارًا في الغزل والخمر» ().

ثانيًا: موضوع القصيدة وغرضها العام

ينتمي النصّ إلى الغزل الحضري العباسي الذي يجمع بين رهافة الحس ودقّة التصوير، حيثُ ينصرف الشاعر إلى وصف محبوبٍ جميل الملامح، رشيق القوام، تفيض عليه النعمة والترف، ثم ينتقل بسلاسة إلى وصف مجلس الشراب في تخلّصٍ فنيّ يربط بين الجمال الإنساني ولذّة الوجود.

يبدأ الوَأْوَاء تصويره بمجازٍ حركيّ رائع حين يشبّه المحبوب بالغصن الذي تهزّه الصبا، فيقول:

ومهفهفٍ كالغصنِ هزّتْه الصبا
فصبا إليه من الفتون هوائي

فهو يستدعي في البيت صورة الغصن المرن الذي يرقص على أنغام النسيم، ليجعل من النسيم نفسه عاشقًا يتمايل نحوه. ثم يواصل رسم الصورة عبر مشهدٍ آخر للحُسن الرقيق حين يقول:

يُوهِيه حمل وشاحه فَتَراهُ من
ترف النعيم يئنّ في إخفاء

وهنا تبرز الملامح الحسية الدقيقة التي تُظهر أثر النعومة والتدلّل على الجسد حتى لكأنّ النعيم نفسه أصبح عبئًا يُرهقه. إنها بلاغة المشهد المرهف التي تجمع بين الملموس والمحسوس.

وفي الأبيات التالية تتكثّف الصور الفنية؛ فالشاعر يجعل من شَعر المحبوب مشهدًا بصريًا متحرّكًا يُشبه العقرب في التواء صدغه:

وكأنَّ عقربَ صدغِهِ لما انثنت
قافٌ معلّقةٌ بعطفةِ فاء

وهذا من أبدع التشبيهات الحروفية في التراث العربي، إذ يوظّف الحروف (القاف والفاء) لتشكيل صورة مرئية تناظر حركة الشعر على الصدغ. وقد عدّه عبد القاهر الجرجاني من أرقى صور الإبداع في التخييل البياني، حيث تتلاقى الحروف والرؤية في تشكيلٍ واحد (أسرار البلاغة، ص118).

ثالثًا: التحوّل البنائي في القصيدة

يُجيد الوَأْوَاء التخلّص الفني بين الغزل والوصف والخمريات، إذ لا يشعر القارئ بانتقال مفاجئ في نغمة النصّ. فبعد أن يصف ملامح المحبوب، ينتقل إلى مجلس الشراب ليؤكد وحدة اللذّة الجمالية بين الإنسان والطبيعة والخمر، قائلاً:

فامْزُجْ بمائِكَ خمرَ كأسِكَ واسقِني
فلقد مزجتُ مدامعي بدمائي

فالبيت يجمع بين التصوير الحسيّ (الخمر والماء) والعاطفة الوجدانية (الدمع والدم)، في مزجٍ رمزيّ يعكس وحدة الألم واللذة. ثم يختم القصيدة بلوحةٍ ضوئية مذهلة:

شمسُ الضحى رقصت فنقّط وجهَها
بدرُ الدجى بكواكب الجوزاءِ

وهي صورة فنية فائقة الجمال، تقوم على التقابل بين النور والظلام، إذ تتجلّى الشمس راقصةً في الكأس بينما تُنقّط أنوار الخمر ببريقٍ يشبه كواكب الجوزاء. وقد علّق عليها الصفدي في الوافي بالوفيات بأنها من "أبدع صور المجاز في شعر الوَأْوَاءِ لما فيها من مضاهاة بين نورين متعاكسين" ().

رابعًا: الغرض البلاغي والدلالي

يتجاوز الشاعر في هذه القصيدة حدود الغزل التقليدي إلى غزلٍ جماليٍّ فلسفيّ، يرى في الجمال البشري انعكاسًا للجمال الكوني. فالوصف عنده ليس مجرّد ترفٍ لغويّ، بل تأمّل في تناسق الخلق.

فمن «اللؤلؤ الرطب» في الابتسام إلى «النرجس» في العين و«التفاح» في الخد، تتجلّى وحدةٌ حسّية تربط بين عناصر الطبيعة والمحبوب، وهي نزعة فنية تميّز شعراء الشام في القرن الرابع الهجري ().

كما يتكشّف في النصّ نزوعٌ أسلوبيٌّ نحو الدقّة البصرية والاعتماد على التشبيه المركّب والاستعارة التشخيصية، وهي سِماتٌ أكّدها الثعالبي في وصفه لشعر الوَأْوَاءِ حين قال: «له في التشبيهات ما يُخجِل المتكلّفين، وفي اللفظ رِقّةُ أهل الشام» ().

لذلك من خلال هذه القصيدة، نلحظ أن الوَأْوَاء الدمشقي يمثّل نموذجًا راقيًا للشاعر الذي جمع بين الإحساس الجمالي والمهارة اللغوية، واستطاع أن يزاوج بين الغزل والوصف والخمر في نسيجٍ واحد. وقد أحكم بنية القصيدة على أساس التدرّج الانفعالي؛ من الشوق، إلى التأمل، ثم إلى الصفاء. كما أن حضور الصور الحسية والتشبيهات المركبة يمنح القصيدة طابعًا تشكيليًا بصريًا يجعلها أقرب إلى لوحةٍ فنيةٍ متحركة. وهي بهذا تمثّل مرحلة نضجٍ في الغزل الشاميّ في القرن الرابع الهجري.

الفصل الثالث: التحليل الأسلوبي والبلاغي

أولًا: البنية الصوتية والإيقاعية

اتّخذ الوَأْوَاء من البحر الكامل ميدانًا موسيقيًا لقصيدته، وهو بحرٌ يمتاز بالاتساع الإيقاعي وتنوّع التفعيلات (متفاعلن متفاعلن متفاعلن)، مما يتيح للشاعر مساحةً للتطريب والامتداد في التصوير. وقد وصف الأخفش الأوسط هذا البحر بأنه «أكثر الأوزان انسجامًا مع القول الغزلي لما فيه من توازنٍ وإيقاعٍ مطّرد» ().

يُضاف إلى ذلك أن الشاعر اعتمد قافيةً مطلقة منتهية بالألف المهموزة (ـاءِ) مثل: هوائي، إخفائي، ظمائي، سمائي، رجائي، دمائي، الأعضاء، الجوزاءِ. وتُحدث هذه القافية أثرًا سمعيًّا ناعمًا ومتردّدًا يوحي بالحنين والانسياب، ويتلاءم مع روح القصيدة القائمة على اللين والعذوبة. وقد أشار ابن جني إلى أن الأصوات المائعة كالمدّ والياء والألف تُسهم في خلق حالة وجدانية رخية تُقارب معنى الشوق ().

أما الموسيقى الداخلية فتتولّد من تكرار المقاطع الصوتية المتشابهة، مثل: الصبا/صبا ومدامعي/دمائي، وهو تكرار يخلق وحدة صوتية متماسكة تُضفي على النصّ نغمة عاطفية موحّدة. ويرى عبد القاهر الجرجاني أن «حسن النظم» يقوم على تناسق الألفاظ في علاقاتها الصوتية والتركيبية بما يعزّز المعنى ().

لذلك فالبناء الصوتي في هذه القصيدة لا يُعدّ زخرفًا لغويًا، بل جزءًا من المعنى ذاته؛ إذ تتماهى رقة الأصوات مع رهافة الصورة لتشكّل وحدة جمالية واحدة بين اللفظ والمضمون.

ثانيًا: البنية التركيبية والأسلوبية

يوازن الوَأْوَاء بين الخبر والإنشاء في بناء الجملة الشعرية، بحيث تؤدّي الجمل الخبرية وظيفة الوصف الموضوعي، فيما تعبّر الجمل الإنشائية عن الانفعال الوجداني والانجذاب العاطفي.

ففي قوله: «يُوهِيه حمل وشاحه» و«تُدمى سوالفه» يغلب الطابع الخبري الذي يرصد الحالة الجسدية للمحبوب في مشهدٍ تشكيلي دقيق. أما في الأوامر مثل: «فامزج بمائك خمرك واسقني» و«واشرب على زهر الرياض مُدامةً»، فإن الأسلوب الإنشائي يخرج عن معناه الحقيقي إلى معنى التمنّي والاستدعاء الوجداني، وهو ما يسميه البلاغيون «الأمر المجازي» ().

ويُلاحظ أن الشاعر يحافظ على الاقتصاد التركيبي، فلا إسهاب في الجمل ولا حشو في الألفاظ، بل يتقدّم من صورةٍ إلى أخرى في انسجامٍ دلالي. كما أن ترتيب الأبيات يخضع لمنطق حجاجيّ متدرّج يبدأ بالوصف الجمالي، ثم ينتقل إلى الإحساس بالشوق، فإلى الدعوة إلى الشراب كرمزٍ للصفاء والنسيان، وهو ما يسمّيه قدامة بن جعفر «ترتيب المعاني على الوجه المؤدّي إلى الغرض بأحسن نظام» ().

ثالثًا: الصور البلاغية والأساليب البيانية

تزخر القصيدة بصورٍ بيانية بديعة تجمع بين التشبيه والاستعارة والكناية والمقابلة، تعكس الحسّ البصري الدقيق الذي يتميّز به شعر الوَأْوَاءِ.

التشبيه التمثيلي المركّب

من أبدع صور الشاعر قوله:

وكأنّ عقربَ صدغِهِ لما انثنت
قافٌ معلّقةٌ بعطفةِ فاءِ

يقدّم الشاعر هنا تشبيهًا تمثيليًا يقوم على مقارنة شكل الشعر الملتفّ على الصدغ بهيئة حرفين من حروف العربية (القاف والفاء)، في صورةٍ تجمع بين الحسّ الجمالي والدقّة الهندسية. وهذه الصورة – كما وصفها الجرجاني – تمثّل قمة البلاغة لأنها تربط بين الشكل والمعنى في بنيةٍ واحدة ().

الاستعارة التشخيصية

في قوله: «ترفُ النعيم يَئِنُّ في إخفاء» يُسند الشاعر الأنين إلى «النعيم» لا إلى الإنسان، فيجعل من الترف كائنًا حيًّا يتألّم من فرط رقّته. إنها استعارة تشخيصية تعبّر عن عمق العاطفة ورهافة الحسّ، وتمنح الجماد بعدًا إنسانيًا يُكثّف المشهد.

الكناية الرمزية

قوله:

تُغني عن التفاح حُمرةُ خدّه
وتنوب ريقته عن الصهباءِ

يقدّم صورة كنايية رمزية عن نضارة الوجه وعذوبة الحديث، حيث يُبدِل لذّة الخمر بلذّة ريق المحبوب، في تحوّلٍ من الخمرة الحسية إلى خمرةٍ معنوية راقية تعبّر عن صفاء الحبّ ().

المقابلة الضوئية

يختم الشاعر لوحته الفنية بقوله:

شمسُ الضحى رقصت فنقّط وجهها
بدرُ الدجى بكواكبِ الجوزاءِ

وهي مقابلة بين النور والظلمة، تجسّد امتزاج لذّة الخمر بصفاء النهار ولمعان الكواكب. وقد عُدّت هذه الصورة من أرقى أمثلة الموازنة البيانية التي توحّد الأضداد في تناغمٍ جمالي ().

رابعًا: المعجم الشعري والحقول الدلالية

يتوزّع المعجم الشعري في القصيدة على ثلاث دوائر أساسية تشكّل معًا وحدة دلالية متكاملة:

  • الطبيعة واللون: الغصن، الصبا، التفاح، النرجس، الرياض، السماء، الجوزاء، وهي مفردات تعبّر عن صفاء الأفق وجمال المشهد.
  • الجسد والزينة: السوالف، الصدغ، الخد، اللؤلؤ، الوشاح، وتشير إلى الجمال الحسيّ المترف.
  • الشراب والأنس: الكأس، المُدام، الندماء، المزاج، وهي رموز للمتعة والانعتاق من الهموم.

هذا التفاعل بين الحقول الثلاثة يُنتج ما يمكن تسميته وحدة اللذة الجمالية، حيث تتضافر عناصر الطبيعة والجسد والخمر في نسقٍ واحدٍ من الصور. وقد لاحظ الثعالبي هذه السمة في شعر الوَأْوَاءِ حين قال: «له في التشبيهات ما يخجل المتكلّفين، وفي لفظه نعومةُ الشاميين» ().

خامسًا: التناسب بين الصوت والصورة

تُظهر الأبيات الأولى تآلفًا بين الأصوات الرخوة (الهاء، الألف، الياء) والصور الرقيقة (الغصن، الصبا، النسيم)، في تماثلٍ دقيق بين الموسيقى اللفظية والمشهد الحسي. فحروف المدّ واللين ترسم حركة النسيم، وحرف الصاد المصفّر في الصبا يوحي بصفير الريح الخفيفة، ما يحقق ما وصفه ابن جني بـ«مطابقة الأصوات للمعاني» ().

إن هذا التناسق الصوتي يعبّر عن قدرة الشاعر على جعل الإيقاع امتدادًا للصورة، بحيث تتحول الموسيقى إلى دلالةٍ بصريةٍ ووجدانية في آنٍ واحد.

سادسًا: البناء الفني ووحدة المشهد

تُبنى القصيدة على حركةٍ فنيةٍ متنامية تبدأ بوصف المحبوب، ثم تنتقل إلى بيان تأثيره في الحواس، لتنتهي بمشهد الشراب الذي يرمز إلى الصفاء والبهجة. هذا الانتقال من الحسي إلى الوجداني يُعبّر عن تطوّر التجربة الشعورية من النظر إلى المعايشة، ومن الصورة الخارجية إلى الإحساس الداخلي().

وبذلك تتحقق في القصيدة وحدة موضوعية نادرة، إذ تتضافر الصور والأصوات والتراكيب لتشكّل مشهدًا واحدًا يعبّر عن الحبّ بوصفه تجربةً جماليةً كاملة.

الخاتمة والنتائج والتوصيات

الحمد لله على التوفيق والختام، وبعد:

يتّضح من خلال دراسة قصيدة الوَأْوَاءِ الدمشقي «ومُهَفْهَفٍ كالغُصن هزّتْه الصَّبا» أنها تمثّل مرحلة ناضجة في تطوّر الغزل العباسي؛ إذ جمع الشاعر بين جمال الصياغة ودقّة التصوير، فجعل من اللغة لوحةً حسيةً نابضة بالحياة. وقد كشفت الدراسة عن وعيه الإيقاعي وقدرته على توظيف الموسيقى اللفظية في خدمة المعنى، وعن تلاحم الأصوات والتراكيب والصور في نسيجٍ دلالي واحد يعكس ذوق الشاميين في الرقة والعذوبة.

أولاً: النتائج

  • يُعدّ الوَأْوَاء الدمشقي من شعراء الغزل الحضري المتميزين في القرن الرابع الهجري، جمع بين صدق العاطفة وأناقة البيان.
  • اتّسمت القصيدة بإيقاعٍ رقيقٍ منسجمٍ مع طبيعة الغرض الغزلي، اعتمد فيه الشاعر القافية المهموزة لإحداث جرسٍ شجيٍّ ممتدّ.
  • استخدم الوَأْوَاء جملًا قصيرةً دقيقة البناء، تزاوج بين الخبر والإنشاء، وتعتمد على الحِجاج العاطفي المتدرّج.
  • تميّزت الصور البلاغية بتنوّعها بين التشبيه التمثيلي والاستعارة التشخيصية والكناية الرمزية، في انسجامٍ يخدم الغرض العاطفي.
  • أبرز المعجم الشعري نزعةً حسّيةً بصريةً تزاوج بين عناصر الطبيعة والجمال الإنساني والشراب، ضمن وحدة شعورية واحدة.
  • عكست القصيدة مثالًا مبكرًا لما يمكن تسميته بـ«اللغة التشكيلية في الشعر العباسي»، إذ تحوّلت المفردات إلى ألوانٍ وأصواتٍ تنبض بالحياة.

ثانيًا: التوصيات

  • توسيع الدراسات الأكاديمية حول شعراء الشام في القرن الرابع والخامس الهجريين.
  • اعتماد المنهج الأسلوبي البلاغي في تحليل النصوص القديمة لكشف الجوانب الجمالية الخفية.
  • إعادة تحقيق ديوان الوَأْوَاءِ الدمشقي دراسةً مقارنة بين نسخ المخطوطات.
  • إدراج نماذج من شعره في مقررات الأدب العباسي بوصفه نموذجًا للرهافة الأسلوبية في الغزل العربي.

وبهذا تختتم هذه الدراسة التي حاولت أن تبرز جماليات التصوير الحسي في شعر الوَأْوَاءِ الدمشقي، وتكشف عن خصوصيته الفنية ضمن سياق الشعر العباسي.


الهوامش

  1. يتيمة الدهر، ج1، ص334.
  2. الأعلام، ج5، ص312.
  3. يتيمة الدهر، ج1، ص334–335.
  4. الأعلام، ج5، ص312.
  5. يتيمة الدهر، ج1، ص334–335.
  6. يتيمة الدهر، ج1، ص335.
  7. يتيمة الدهر، ج1، ص334.
  8. الأعلام، ج5، ص312.
  9. يتيمة الدهر، ج1، ص334–335. وقد طبع الديوان في العصر الحديث بتحقيق الدكتور سامي الدهّان، ونشره المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1950م، ثم أعادت دار صادر طباعته عام 1993م، مع ترتيب القصائد على القوافي، وتوثيق نسبتها إلى روايات الثعالبي.
  10. تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الثاني، دار المعارف، ص5.
  11. المصدر نفسه، ص7–9.
  12. يتيمة الدهر، ج1، ص334–335.
  13. الثعالبي، يتيمة الدهر، ج1، ص316–317.
  14. يتيمة الدهر، ج1، ص315. أما النصّ الكامل للقصيدة فقد ورد في ديوان الوَأْوَاءِ الدمشقي الذي حقّقه الدكتور سامي الدهّان، ونشره المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1950م، ثم أعادت طبعه دار صادر، بيروت، 1993م. وقد نُظّمت القصيدة هناك في ترتيبها الصحيح بدءًا من وصف المحبوب وانتهاء بمشهد الخمر والضياء، ما يجعل من هذه الطبعة المرجع الأساس لاعتماد نصّ القصيدة في هذا البحث.
  15. الصفدي، الوافي، ج3، ص271.
  16. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الثاني، ص215.
  17. يتيمة الدهر، ج1، ص334.
  18. كتاب القوافي، ص78.
  19. الخصائص، ج2، ص245.
  20. دلائل الإعجاز، ص113.
  21. الهاشمي، جواهر البلاغة، ص184.
  22. نقد الشعر، ص60.
  23. أسرار البلاغة، ص127.
  24. شوقي ضيف، العصر العباسي الثاني، ص215–217.
  25. السكاكي، مفتاح العلوم، باب المحسّنات المعنوية، ص209.
  26. يتيمة الدهر، ج1، ص334–335.
  27. الخصائص، ج2، ص245.
  28. المصدر السابق نفسه.

فهرس المصادر والمراجع

  • الأخفش الأوسط، سعيد بن مسعدة. (1981م). كتاب القوافي. تحقيق: عبد العال سالم مكرم. القاهرة: دار المعارف.
  • ابن جني، أبو الفتح عثمان. (1999م). الخصائص (ج2). القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
  • الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن. (1976م). دلائل الإعجاز. تحقيق: محمود محمد شاكر. القاهرة: مطبعة المدني.
  • الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن. (1976م). أسرار البلاغة. تحقيق: محمود محمد شاكر. القاهرة: مطبعة المدني.
  • الثعالبي، عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري. (1983م). يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر (ج1). تحقيق: مفيد قميحة. بيروت: دار الكتب العلمية.
  • الزركلي، خير الدين. (2002م). الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستشرقين (ط15، ج5). بيروت: دار العلم للملايين.
  • السكاكي، يوسف بن أبي بكر. (1987م). مفتاح العلوم. بيروت: دار الكتب العلمية.
  • الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك. (1962م). الوافي بالوفيات (ج3). تحقيق: هلموت ريتر. بيروت: دار الثقافة.
  • الهاشمي، السيد أحمد. (1959م). جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع. القاهرة: المطبعة الأميرية.
  • الدهّان، سامي (محقّق). (1950م/1993م). ديوان الوَأْوَاءِ الدمشقي (أبو الفرج محمد بن أحمد الغسّاني). دمشق: المجمع العلمي العربي، ثم بيروت: دار صادر.
  • ضيف، شوقي. (1993م). تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الثاني. القاهرة: دار المعارف.
  • قدامة بن جعفر، أبو الفرج. (1952م). نقد الشعر. تحقيق: ف. كرنكو. القاهرة: مكتبة القدسي.
author-img
بوابة المعرفة الرقمية

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent